: حين يتحوّل العقاب إلى وسام، والموقف إلى دولة


لم يكن إلغاء زيارة قائد الجيش إلى واشنطن خطوة بروتوكولية عابرة، ولا مجرّد تعديل في رزنامة دبلوماسية. ما جرى كان رسالة واضحة:

إن من يقول الحقيقة في هذا الشرق… يُعاقَب.

وأنا لا أكتب هنا ككاتبة أو محلّلة فقط، بل كابنة شهيد خدم في صفوف الجيش وقدّم حياته على درب الشرف والتضحية والوفاء.

هذه المؤسسة احتضنتنا بعد رحيله، وأمّنت لنا الطبابة والتعليم والرعاية حتى اشتدد عودنا. أعرفها وأعرف جيدًا وزن قيمها ومتانة مسارها الوطني.

من المالكية (1975) إلى خلدة والجبل (1982)، ومن الدفاع عن الشرعية (1989) إلى نهر البارد (2007)، وصولًا إلى فجر الجرود (2017)…

يكفي ذكر العناوين ليتبيّن أي تاريخ نقف عليه: تاريخٌ من المناقبية والانضباط ورفض الانهيار.

والحقيقة التي يعرفها كل لبناني أنّ الجيش لا تنقصه الشجاعة لمحاربة إسرائيل، ولا تنقصه الإرادة ولا الرجال. ما ينقصه هو السلاح الثقيل الذي يُحجَب عنه سياسيًا ودوليًا، لأن القوى الكبرى لا تريد للجيش اللبناني أن يقاتل عدوّه المعلن في الدستور: إسرائيل، حتى لو استباح أجواءنا وحدودنا كل يوم.

في هذا السياق، جاء موقف قائد الجيش العماد رودولف هيكل. فقد قال بوضوح ما لم يجرؤ كثيرون على قوله: أدان الاعتداءات الإسرائيلية بلا التباس، وربط استكمال مهامه باحترام إسرائيل لاتفاقية وقف النار.

وقد جاءت ردود الفعل الدولية لتؤكد ذلك، إذ قرأت واشنطن موقفه باعتباره خروجًا عن الخط المطلوب، ورأت في تمسّكه بالحقائق الميدانية استقلالية لا ترغب بها في هذه اللحظة.

وهذا الموقف بالذات هو ما أزعج واشنطن؛ لم يغضبوا من نبرة القائد، بل من مضمون كلامه. لم يغضبوا لأنه قال الكثير، بل لأنه قال القليل الكافي:

أن الجيش لن يُزَجّ في حرب أهلية، ولن يكون أداة في صراع داخلي، ولن يساوي بين المعتدي وبين ابن الوطن حيث تجمعهم عقيدة مناوئة الاحتلال.

لقد ضايق واشنطن أن قائد الجيش تصرّف كرجل دولة، لا كمنفّذ لإرادتها، وأن الجيش حافظ على موقعه كمؤسسة وطنية مستقلة… لا كذراع سياسية لأحد. وكان هذا أعنف ما تلقّته الإدارة الأميركية من رسائل.

وهكذا، تحوّل الإلغاء من عقاب إلى وسام استحقاق وطني. ورُفعت قيمة رجلٍ لم يساوم على الحقيقة، ولم يتراجع أمام ضغط، ولم يخضع لابتزاز سياسي، بل حافظ على ثوابت المؤسسة التي يقودها.

اليوم، في زمن تتكسّر فيه البنى والمؤسسات، يبقى الجيش اللبناني آخر مؤسسات الدولة التي لا تزال تحتفظ بهيبتها.

ويبقى قائده، بموقفه الأخير، شاهدًا على أن لبنان ما زال يملك رجالًا لا يبيعون قرارهم، ولا يساومون على سيادتهم، ولا يخافون من قول الحقيقة.

وبوصفي ابنة شهيد من هذه المؤسسة، أعلم أن الجيش الذي رعانا بالأمس… ما زال اليوم يحرس لبنان بالروح نفسها، وبالصلابة ذاتها، وبالموقف الذي جعل من قائده أيقونة فخر لبنانية شاء من شاء… وغضب من غضب.

مي حسين عبدالله


تعليقات: