زاهر الخطيب: الماركسي الحالم مات مع حلمه

زاهر الخطيب
زاهر الخطيب


كلّ الصخب الذي رافق زاهر الخطيب في حياته سكنَ في موته. ابن شحيم الذي كان نجماً في الحرب والسّلم، خلال توقيع اتفاق الطائف وبعده، في المجلس النيابي وفي الوزارة، رحل وحيداً أمس عن 85 عاماً، بعد أن أصيب بجلطةٍ قبل نحو 6 أشهر، مفتقداً الرفاق الذين تحلّقوا حوله على مدى عقودٍ.

تاريخٌ سياسيٌّ حافل بالمحطّات والمواقف للخطيب الذي انتمى في شبابه إلى الحزب التقدمي الاشتراكي، وسار خلف والده نائب الشوف السّابق، أنور الخطيب، باعتناقه الناصريّة وخطّ الجنبلاطية والعدالة الاجتماعيّة. وكان يُمكن لهذا التّاريخ أن يستمر على هذا المنوال، لولا موت والده، ثم استشهاد شقيقه ظافر في منتصف السبعينيات خلال اقتحام مخيّم تلّ الزعتر.

سُرعان ما ورث الخطيب أمريْن: النيابة عن والده والماركسيّة عن شقيقه، ليجد نفسه بين ليلةٍ وضحاها نائباً مسؤولاً عن «اللجان الثوريّة» التي كانت قد انشقّت سابقاً عن حزب العمل الاشتراكي العربي على أيدي قياديين في حركة القوميين العرب. هكذا وجد الخطيب نفسه مُنغمِساً بين «رفاق ظافر»، وأبرزهم حميدي العبدالله، ليتشرّب الفكر الماركسي واليساريّة «على أصولها»، ويحوّل «اللجان الثوريّة» إلى «رابطة الشغّيلة» فيُصبح أمينها العام، وينجح في تحقيق أحد أحلامه بأن يكون ما يريده: «ظافر الثاني» الذي لطالما كان متأثّراً به.

لا يمكن كتابة تاريخ لبنان الحديث من دون استرجاع محطّات الخطيب السياسيّة – الميدانيّة، من مشاركته في رفض اتفاق 17 أيّار رغم ابتزازه حينها عبر مداهمة منزله واعتقال ستة من رفاقه ووقوفه جنباً إلى جنب جاره، رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، لتنظيم انتفاضة 6 شباط وتحويل منزله إلى غرفة عمليّات. كما لا يُمكن الخوْض في مآلات الأزمة الماليّة التي وقعت في عام 2019 من دون استعادة خطابات المُعارض «الثورجي» الذي لطالما رفع صوته رفضاً للسياسات الحريريّة الماليّة من مصرف لبنان إلى الدين العام والموازنات والرهان على السّلام وصولاً إلى «سياسة لحس المبرد» في سلسلة الرتب والرواتب.

والعارفون بالخطيب يستذكرون أنّه كان يرفض الإدلاء بأي مُطالعةٍ في مجلس النوّاب من دون جلسات نقاشٍ معمّقة مع الخبراء، للبحث عن الأزمة والثغرات وكيفية الإصلاح، رافضاً المعارضة للمعارضة.

رفض اتفاق 17 أيّار رغم ابتزازه ومداهمة منزله واعتقال رفاقه

كلّ هذه المحطّات الأساسيّة «أزهرت» هذه الشخصيّة الثوريّة التي مزجت بين الكثير من التناقضات، هو الذي تأثّر أصلاً بجميع الشخصيّات الثوريّة على مرّ العصور، فتمكّن من الخلط بين تشي غيفارا والإمام الخميني، منحازاً دوماً إلى قوميته وحقوق العمّال والفقراء، فكانت صورته دوماً رجلاً بشعر كثيفٍ وشاربيْن متدلِّيَيْن، يحمل المذياع ويرفع صوته في التحرّكات المطلبيّة في الشوارع والأزقّة، من دون أن تنجح النيابة في التخفيف من راديكاليّته وتمرّده، فكان صورة للثوري الحالم الذي حارب على مدار تاريخه «طواحين الهواء» في الفساد والمحسوبيّات، من دون أن يتمكّن من تحويل تطلّعاته إلى حقيقة، حتّى آمن في آخر سنوات حياته بأنّ أزمة الكيان بنيويّة ولا إمكانيّة لإصلاحها من دون حلّ للكيان الطائفي.

ولأنّ رئيس «رابطة الشغّيلة» كان حالماً بالتغيير ومهجوساً بالثورة، لم يُهادن طوال حياته. فرفض كلّ مُحاولات الإقناع التي جرّبها الرئيس رفيق الحريري معه، ودفع الثمن عزله وتطويقه سياسياً. ورغم علاقته المباشرة مع أركان النّظام السوري في حينه، إلّا أن رفضه الاستزلام لضبّاطه في لبنان سُرعان ما «غرّمه» خروجاً من المجلس النيابي بعد سنواتٍ من النضال.

لم يكن زاهر الخطيب سياسياً تقليدياً، قدّم الخدمات لأبناء إقليم الخروب لكنّه رفض استثمارها سياسياً، تماماً كرفضه لتلبية المناسبات الاجتماعيّة على قاعدة «التمنين» لأبناء قريته، بل أراد لهم أن يتعرّفوا إليه وأن ينحازوا إلى ثورته وأن يرفعوا الصوت لمطالبهم معه، إلّا أنّ كلّ ذلك أخمد ثورته، فابتعد.

سنوات طويلة من النضال عاشها الخطيب الذي تحوّل إلى رمزٍ، من دون أن تغيّر صدمة الحرب الإسرائيليّة الأخيرة من إيمانه بأن مقاومة العدو أمرٌ واجبٌ، والاستسلام له مرفوض.

تعليقات: