البلدات المعلّقة على حافة النار جنوباً..قصص لا تروى بالكلمات

عند بداية الليل في الجنوب، كل شيء يتحول إلى اختبار أعصاب (علي علوش)
عند بداية الليل في الجنوب، كل شيء يتحول إلى اختبار أعصاب (علي علوش)


في الجنوب، لا تُروى القصص بالكلمات؛ بل تُفهم من الوجوه، من ندبة على يد شقيّة، أو من رائحة خبٍز يخرج من تنور. هناك، لا شيء يُقال ببساطة، لأن كل تفصيل يحمل ذاكرة نجاة.

في القرى المعلّقة على حافة النار، الحياة لا تموت؛ بل تعود بوجهٍ آخر، امرأة تعجن وهي تراقب الدخان البعيد، شاب يجمع الحطب استعدادًا لشتاء قاس، وأطفال يركضون بين أطلال صارت ملعبهم الجديد.

نساء الجنوب: يجعلن القسوة جمالاً

نساء الجنوب، مثل أرضه، يعرفن كيف يجعلن من القسوة جمالًا، ومن التعب فخرًا. ويعرفن كيف يكنّ قويات من دون أن يفقدن نعومتهن، وكيف يواسين الأرض بأيديهن كي تظلّ قادرة على العطاء.

يبدأن نهارهن باكرًا، قبل أن تستيقظ الشمس، بين الطابون والبيدر، بين الحطب والمونة، بين الهمّ والضحكة. في بيوتهن، لا يعلو صوت الخوف على صوت الملعقة في قدر المربّى، ولا يُطفئ القصف رغبة في ترتيب البيت أو سقاية الزرع. هنّ لا يتكلمن كثيرًا عن الشجاعة، لأنهن يمارسنها كل يوم، في الانتظار، في الصبر، في حماية الأطفال من الخوف.

في استقبال الغريب، لا يتبدّل فيهن شيء، القهوة جاهزة، الخبز ساخن، والابتسامة حاضرة. كأن الكرم عندهن غريزة لا عادة، وفعل مقاومة بقدر ما هو ضيافة. وحين يتحدثن عن الحياة، يفعلن ذلك ببساطة مذهلة، كأنهن يربين الأمل على عتبات بيوتهن مع الزهر البريّ.

نساء الجنوب لا يشبهن أحدًا. لا في صبرهن، ولا في ضحكتهن التي تولد من بين الركام. إنهنّ ذاكرة الأرض وصوتها، عماد البيت وسرّ بقائه، وملامحهنّ حتى حين تغشاها التجاعيد تشهد أن هذه الأرض لا تموت، لأنها تشبههنّ.

حولا: الطريق غير آمن

في حولا، تخدعك البداية. تدخلها فتظن أن البلدة لم تُمسّ، أن الحرب مرّت من فوقها بخفّة الغيم. بيوتها متماسكة من بعيد، والطرقات نظيفة، كأن شيئًا لم يكن. لكن ما إن تتوغّل قليلاً، حتى يتبدّى العكس تمامًا. الدمار عميق، والجدران مثقوبة بالرصاص، والنوافذ المحطّمة تُطلّ على فراغٍ يوجع. الحرب هنا لم تكن زائرةً عابرة، بل مقيمة.

وعلى جانب الطريق، يافطة كتب عليها "الطريق غير آمن وخطر. ممنوع المرور. بلدية حولا". وراء تلك الجملة الجافة تختبئ القصة كلها، هناك، على تلة الدواوير بين مركبا وحولا، يتمركز جيش العدو الإسرائيلي. من هناك يراقب، ومن هناك يتسلّل حين يشاء.

حوالي مئتي عائلة فقط عادت إلى حولا. القلة التي قررت أن تعيش في قلب الخطر بدلاً من النزوح في الانتظار. في أحد الأزقة، محل صغير مليء بسلال القشّ وصورٍ مرسومة. صاحبه ابن البلدة، لم يسلم بيته، فحاول جمع ما تبقّى من أعماله اليدوية، كأنه يُلملم ذاكرة البلدة قطعةً قطعة.

بنت جبيل وبرعشيت: لا شيء كامل بعد

في بنت جبيل، عادت الحركة إلى الأسواق القديمة، فتحت المقاهي أبوابها، وصار يمكن سماع ضحكات خفيفة أو نقاشات سياسية تتسرّب من بين الطاولات. لا شيء كاملاً بعد، لكن وجود الناس وحده فعل مقاومة. في برعشيت، المشهد يشبه بنت جبيل، من القرى المدمّرة، نزح كثيرون إلى هذه البلدات التي صارت أشبه بمحطات مؤقتة للحياة. من حولا إلى برعشيت، خطّ نزوحٍ داخلي غير معلن، يشبه انتقال الروح من جسد جريح إلى جسد أقل وجعاً. العائلات تحمل معها القليل من الأمتعة، والكثير من الحكايات، عن بيتٍ تهدّم، عن بئرٍ جفّ، عن جدارٍ كان يحمي. في بيوت الأقارب والأصدقاء، تتكدّس الأرواح أكثر من الأغراض، ويكبر الشعور بالانتماء من جديد، كأن الجنوب كله صار عائلة واحدة تتقاسم الخبز والخوف على مائدة واحدة.

الليل في الجنوب لا ينام؛ بل يتربّص.

عند بداية الليل في الجنوب، كل شيء يتحوّل إلى اختبار أعصاب. تبدأ الحياة بالانكماش ببطء كأن القرى تُطفئ أنفاسها واحدة تلو الأخرى. الشوارع التي تضجّ نهارًا بأصوات الأطفال، وبائع الخضار، تدخل في صمت ثقيل. غلق المحال أبوابها باكرًا، وتُسدل البيوت ستائرها الثقيلة، كأنها تستعد لامتحانٍ جديد من الخوف. وحدها القطط تعبر الطرقات بخفة، وكلاب الحراسة تنبح في الفراغ.

الليل الجنوبي يُراقَب كما يُخاف منه. الجميع يعرف أن جيش العدو يقترب أحيانًا، يتوغّل في أطراف القرى، يزرع عبوةً أو ينسف منزلًا. لذلك ينام الجنوبيون بأبوابٍ مقفلة بإحكام، وأي حركة تُسمع في الخارج لا يُفتح لها الباب. "إذا سمعنا حركة، ما منطلّ"، يقول أحدهم. يعرفون أن لا بديل عن البقاء، وأن الحذر لا يعني الهزيمة.

يخرق الصمت صوت الطائرات المسيّرة، تُصدر أزيزًا واطئًا كطنينٍ في الأذن، كأنها تذكّر الناس بأن الحرب ليست بعيدة، بل معلّقة فوق رؤوسهم. ومع ذلك، تجد من يشعل سيجارته على العتبة، يتأمل السماء المعتمة، ويقول: "تعودنا." كلمةٌ صغيرة تختصر فلسفة الجنوب كلّها، التعايش مع الخطر دون أن يُصبح هوية، ومقاومته بالصبر والعناد اليومي.

الحياة لم تتوقف. فتحت المدارس أبوابها، عاد التلاميذ إلى صفوفهم، والحافلات تعبر بين البلدات كأنها جسر الأمل الأخير. لكن ليس الجميع عاد بثقة. بعض الأهالي أعادوا أولادهم في بداية العام، ثم تراجعوا مع تجدّد القصف والخوف. يفكرون الآن بنقلهم إلى مدارس أخرى، أبعد عن الحدود، أبعد عن الخطر الذي لا ينام.

علاقة الجيش واليونيفل

بين الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل"، نشأت علاقة من نوعٍ خاص، لا تشبه التحالفات العسكرية ولا الشراكات الرسمية. علاقةٌ صاغها الخطر اليومي، والعيش المشترك في الميدان. بالكاد يتحدثون اللغة نفسها، لكنهم ابتكروا قاموسهم الصغير. إشارات باليد، ابتسامة متبادلة، وكلمة "good?" التي صارت جسر تواصل بين عالمين لا يلتقيان إلا في وجه الحرب.

في مشاهد الجنوب اليومية، تراهم معًا، يعملون جنبًا إلى جنب مرافقة الأهالي العائدين إلى بيوتهم المهدّمة في ترميم ما يمكن أن يُرمّم من ذاكرة المكان.

خوف من حرب قادمة

الجنوب نفسه يحاول أن يتنفّس، وأن يخرج مجددًا من تحت الأنقاض.الحياة هناك تتسلّل بخجل، لكنها مصمّمة على البقاء. هكذا يُبنى الجنوب مجددًا: لا بمعاول الإعمار فقط؛ بل بالألفة، بالتواطؤ الجميل على الصمود، وبذلك الإيمان العميق أن الحياة، مهما تهشّمت، تعرف طريقها دائمًا إلى الضوء. وحين تسأل الجنوبيين عن الخوف من حرب قادمة، يبتسمون تلك الابتسامة التي تشبه المرارة. يقول أحدهم "أكيد في خوف... بس هيدي المرة غير."

كأنهم تعلّموا أن الخوف نفسه يمكن ترويضه، وأن الحياة، مهما كانت مهددة، لا تُعاش إلا في وجه الخطر. في الجنوب، الكرامة والمقاومة ليست شعارًا؛ بل عقيدة. وأهله، ونساؤه خصوصًا، هنّ من يعطين لهذه الأرض معناها الحقيقي، أرض لا تنكسر، حتى لو تكسّرت حجارتها.

تعليقات: